Monday 17 May 2010

الأسبوعية 16-5-10

الزهاوي في مسار الجاحظ

خالد القشطيني

جسّم جميل صدقي الزهاوي وحدة الشعب العراقي في كونه كردي المولد، تركي اللسان، عربي القلم، و حمل بين جوانحه الروح الرافدينية المتمثلة بالعلمانية و العقلانية. و لكن اغلب الناس يجهلون جانب الظرف و الفكاهة من شخصيته. قلما نظر اليه احد كعلم آخر من اعلام الفكاهة العراقية. و رغم اختلافه عن الجاحظ في كونه شاعرا و الجاحظ ناثرا، فأنه في الحقيقة تابع مسار ذلك العالم الظريف في عقلانيته وعلمانيته.
بعد ان غيب الموت تلك النجوم الساطعة من نجوم الفكاهة و السخرية العربية ، ابن الرومي و ابن المقفع و ابو نوآس و كل تلك الشلة التي نعتز بظرفها، و غيب المغول عاصمة الخلافة، انطوت صفحة الظرف العربي في بلاد الرافدين. بيد ان الفكاهة لا يمكن ان تموت. و كان الزهاوي ممن واصل ذلك التراث على طريقته و مزاجه.
لا اجد شيئا يمثل تلك الشخصية المركبة التي مزجت بين العلم و العقل و الشعر و الظرافة كتفسيره " العلمي" لظاهرة جاذبية الكرة الارضية. نشر كتيبا في الموضوع و مقالات عديدة ينفي فيها فكرة الجذب و يستبدلها بفكرة الدفع. فحسب رأيه ، الأجسام لا تسقط على الأرض بفعل جاذبية الأرض و انما بفعل قوة دافعة من الأجرام السماوية تتمثل بجزيئات تنطلق منها و تقطع ملايين الأميال وترشق كل شيء في طريقها و تدفعه باتجاهها فيسقط علينا، على الأرض. انها بدون شك "تحشيشة" ظريفة جره اليها ايمانه بأنه فيلسوف ولا خير في فيلسوف لا يأتي بنظرية علمية جديدة. و كانت نظرية الرشق و الدفع من اعظم نكات الزهاوي في رأيي.
و واصل الشاعر خوضه في الشؤون العلمية فبشر بنظرية التطور. سمع احد المواطنين بما قال فاعتبره زندقة وكفرا بالله . قصده في المقهى المعروف بإسمه ، مقهى الزهاوي في شارع الشرطة. و تحداه : كلب كافر! تقول الانسان طلع من القرد؟ يعني آني ابويه كان شادي؟"
مسك الزهاوي بذقنه و مد وجهه المغضن القبيح و لحيته المنتفة نحو الرجل و قال له : لا ابني، لا . انا ما قلت انه ابوك كان قرد . انا اقول آني ابويه كان قرد."
و كان الشاعر عالما حق العلم بالمدى الكاريكاتيري لوجهه. ففي مجلس السيد محمود صبحي الدفتري ، جاءه الوحي فارتجل بعض الاشعار الأخوانية وقال:
جمع الأديب الحر صبحي شملنا في داره ، اكرم بها من دار
لو لم تكن لي لحية و ســــــدارة لحسبتني طيرا من الأطيار
كان المفروض ان يقول " لحسبتني قردا من القرود"، و لكن القافية منعته من ذلك. انطقه هذا التوأم الأدبي في شخصيته ، توأم العلم و الفكاهة ، كثيرا من الكلمات البليغة. اشتهر منها ما قاله في مجلس المبعوثان العثماني عندما كان نائبا فيه و طرحوا فكرة تدريس صحاح البخاري في الكلية البحرية التي اسسوها عندئذ ضمن مناهجها الدراسية. وقف و خاطب المجلس قائلا:
آسف. يظهر ان هناك سوء فهم في الموضوع. فالبواخر لا تمشي بالبخاري. و انما بالبخار!"
قال وضج المجلس بالضحك. و عاد النائب الشاعر الى بيته سالما لم يعتد عليه احد و يتهمه بالسخرية بالدين. كانت ايام خير و الناس كان عندها عقل.

No comments: