Thursday 11 June 2009

أيام فاتت

برتقالة لماما

كان من المعتاد في المدارس العراقية ان يوزع معلم الرياضة البرتقال على افراد فريق المدرسة لكرة القدم في فترة الاستراحة بين شوطي أي مباراة تجري مع مدرسة اخرى ضمن مباريات كأس المدارس الابتدائية او الثانوية ، اعتقادا بأن في البرتقال من الفيتامينات ما يعوض عن الطاقة المستهلكة للاعب ، بل و يعطيه بأس عنتر بن شداد للشوط الثاني، و كله على اعتبار ان الطاقة ليست سوى ملفوفة دولمة من الفيتامينات. فضلا عن ذلك فأن ما في البرتقالة من عصير ما يعوض عن السوائل التي تصببت عرقا من اللاعب في هذا الطقس السادي للعراق.
ما كان يجري في كل المدارس من هذا التقليد ، اتبعته مدرسة العسكري الابتدائية المطلة على ضفة نهر دجلة ، قريبا من محلة الصرافية العمالية بأكواخها و صرائفها الطينية الحقيرة من جهة ، و من الجهة الاخرى محلة العيواضية البرجوازية بقصورها الشامخة و حدائقها الغناء. بفعل ذلك كان طلبة هذه المدرسة خليطا من اولاد هاتين الطبقتين المتناقضتين. و لكن الطفل حميد كان من الفئة غير المحضوضة. عاش في واحد من هذه الأكواخ مع اخوته الثلاثة ، صبيين و صبية، مع والدته ام علي ، ارملة الجندي الشهيد ابو علي ، الذي قتل في احدى عمليات قمع ثورة من ثورات قبائل الديوانية.
لم يكن باستطاعة ام علي ان تشتري أي شيء لأولادها من باب الالعاب و اللهو، ولا حتى كرة مطاطية صغيرة. بيد ان الاولاد عوضوا عن ذلك بجمع الخرق و الجرائد الممزقة و شدها معا بحيث تصبح اقرب ما تكون الى هيئة كرة. كانوا يخرجون بها في الشارع و يلعبون كرة القدم حتى يحل الظلام . و عندما دخل حميد المدرسة ، كانت امنيته ان يستطيع الانضمام الى فريقها لكرة القدم فيستمتع باللعب في كرة جلدية حقيقية منفوخة بهواء حقيقي ، و تقفز و تنط كالشيطان ولا تهمد جاثية على الارض ككرة الخرق.
اما وقد فقدت ام علي زوجها في شبابها و ترملت ، فقد كرست كل حياتها لأولادها. جاءت تقود بيدها طفلها الصغير حميد الى مدرسة العسكري و اصرت ان ترى معلم الرياضة السيد جاسم محمد.
- " وليدي هذا حميد يموت على الطوبة. اخلي بايدك وهو ولد يتيم ما عنده اب. و انت مبين عليك رجل خير . ما اقول غير هالله هاالله بيه و احسبه مثل ابنك."
انحنت ام علي لتقبل يد المعلم جاسم ، و لكن الرجل منعها عن ذلك و وعدها بأن يبذل جهده في رعاية هذا الطفل اليتيم.
كان حميد صبيا شاحب الوجه ، نحيف البنية ، صغير الجسم ، خجولا في تعامله مع زملائه ، و لكن نحافة جسمه اعطته تفوقا خاصا على اصحابه في سرعة الركض و المزاوغة بالكرة و الملاعبة بها. و كل تلك الايام الطويلة التي قضاها في اللعب بكرة الخرق بين السيارات في الشارع و بين المارة على الرصيف اعطته قدرة جيدة في التعامل مع كرة القدم الحقيقية. ما ان بلغ الثانية عشر من عمره ، او الصف الخامس من الدراسة الابتدائية حتى اختاره معلم الرياضة عضوا في فريق المدرسة و عين مكانه من الفريق ، هجوم يمين. فقد كان حميد يبدع في تسجيل الاهداف، مستفيدا من جسمه الصغير في التسلل و اختراق دفاع الفريق المقابل.
حل موعد المباراة الاولى من الموسم الرياضي في سباق ضد فريق مدرسة الكريعات الابتدئية على ميدان ساحة الكشافة. اخذ اللاعبون اماكنهم من الساحة ، يتطلعون بشوق للأحدى عشرة برتقالة التي سيوزعها عليهم المعلم جاسم في نهاية الشوط الاول. ابتهلوا الى الله ان يكون توزيعا باستحقاق و فرحة يأتي بعد هدف او هدفين يفوزون بها امام زملائهم المشجعين من اطفال مدرستهم. تلى احدهم آية الكرسي مع نفسه. قالوا له انها تضمن الفوز بأي شيء حتى الأكوال في كرة القدم. فضل طفل آخر سورة " قل هو الله احد" .تلاها مع نفسه لما لا يقل عن ست مرات. ادار حسني ظهره الى المتفرجين الصغار و رفع كلتا يديه قليلا نحو الشمال حيث كان يعتقد انه اتجاه مدينة كربلاء ، حيث يوجد ضريح الامام الحسين و ضريح الامام العباس. و تمتم مع نفسه : " عيني العباس ابو راس الحار . انخيك! لا ترجعنا فاشلين. اعمي عيون كولجي الكريعات و خليهم يخسرون!" و لاشك ان لاعبي فريق الكريعات ابتهلوا و قالوا مثل ذلك ، مما لابد ان ترك الامام عباس بن علي بن ابي طالب رضي الله عنه في حيرة من امره . لمن من الفريقين سيستجيب و يدعم بذراعيه العتيدتين.
نظر الحكم الى ساعته ثم صفر بابتداء المباراة. راح الصبية الصغار يتراكضون و يجرون راء الكرة ، يصرخون و يتراشقون الشتائم و الكفر ، الاوامر و التعليمات ، و اخوانهم المشجعون حول الساحة ، يصفقون و يهتفون و ينشدون الاهازيج : " من قايل لك تلعب طوبة ! من قايل لك تلعب طوبة !" ، و كأنهم في معركة حربية مصيرية يتوقف عليها مصير البلاد ، لا بل و الامة العربية برمتها. يلوحون بعيدانهم و عصيهم و اعلامهم و قمصانهم ، " اهجم زين الصد ما ينفع !"
استمرت هذه الجلبة حتى صفر الحكم صفرته الطويلة انذارا بانتهاء الشوط الاول من المباراة. تدفق المشجعون الصغار ، كل وراء فريق مدرسته . انطلق المعلم جاسم محمد ، يجري وراءه فراش المدرسة ابو عبد الله حاملا سلة البرتقال ، احدى عشرة برتقالة عدا و حصرا. اختطف المعلم السلة من يده و راح يوزعها على اللاعبين واحدا واحدا ، ينادي باسمائهم و يهنئهم على ادائهم ، سعيد ولي ، خذ . عباس كردي خذ برتقالتك . حمدي عيسى هاك. فاضل علي ، برتقالتك. حميد حسين ، تعال ، تعال . وينك يا حميد حسين؟ تقدم حميد الصغير فاحتضنه معلم الرياضة. قبله من رأسه و نفش بيده شعره الاسود المجعد برقة و محبة. " احسنت! احسنت! الفضل كله الك." فقد كان حميد هو الذي سجل الهدف الوحيد في ذلك الشوط ضد فريق مدرسة الكريعات. " هاك! تستحقها ونص! " و سلمه المعلم جاسم برتقالته التي اختارها له خصيصا ، اكبر ما في السلة من البرتقالات .
راح الاولاد يقشرون البرتقال بأظافرهم ، يقضمون و يمطقون و يرمون بالقشور على ساحة الملعب . يمسحون فمهم بأكمام ثيابهم الجديدة المرقطة بمربعات من الازرق و الاخضر. يتناقشون في اللعبة و يخططون للشوط الثاني .
- " انت عبود، خلي بالك من هذا ابن القحبة سليمان، لاعوبهم الهجوم الوسط . لا تفك عنه. الحقه وين ما يروح و العن ابوه! اكسره!"
قال رئيس الفريق و استمر بالتوجيهات حتى صفر الحكم مرة اخرى لابتداء الشوط الثاني. و يظهر ان الولد عبود لم يمتثل لتعليمات رئيسه و يكسر رجل سليمان هذا ، و تركه يسجل بعد دقائق قليلة من اللعب هدفا لمدرسة الكريعات ضدهم ، فتعادل الفريقان بذلك و تحولت المباراة الى معركة حامية الوطيس بين هذه الشلة من اثنين و عشرين صبيا يحاول كل منهم ان يجر الفوز لفريقه. راح العرق يتصبب من وجوههم الصغيرة و التعب يستولي على ارجلهم النحيلة ، فيتعثرون و يتساقطون يمينا و شمالا. و المعلمون و التلامذة يهتفون و يشجعون و يشدون من ازرهم .
" اهجم زين الصد ما ينفع … اهم زين الصد ما ينفع …‍‍‍! "
لم يبق من الشوط الثاني غير دقيقتين او ثلاث عندما صد حامي هدف مدرسة العسكري الكرة من ضربة قوية . مسك بها ثم ناولها كآخر محاولة يائسة في المباراة الى الدفاع الايسر الذي بادر بدوره الى تمريرها الى الصغير حميد في الجانب المقابل من الساحة . استلمها حميد ، و دار بها يمينا ثم شمالا ثم يمينا ، يزاوغ و يخادع و يضلل دفاع الكريعات ، الى ان استطاع ان يتجاوزهم و لم يبق امامه احد غير حامي الهدف . اصبح الميدان مفتوحا واضحا لتسجيل هدف مؤكد يحسم السباق لصالح مدرسة العسكري . ارتفع الصياح و الضجيج و التشجيع : " يا الله حميد ‍ ‍! زين حميد! ‍ اركض حميد! هذا كولك حميد …!" لم يبق بينه و بين الهدف غير اربعة او خمسة امتار عندما سقطت من جيبه سرواله القصير برتقالة. توقف عن الركض . ادار ظهره للهدف بخفة و اصرار ليلتقط البرتقالة من الارض و يعيدها الى جيبه . و كانت الكرة اثناء ذلك قد تدحرجت نحو حامي هدف الكريعات الذي التقطها بين يديه كهدية مباركة و عاد فرفسها رفسة قوية الى عنان السماء نحو الجانب المقابل . و بها دوت صافرة الحكم بانتهاء المباراة.
هجم تلامذة مدرسة العسكري و المعلم جاسم في مقدمتهم نحو حميد بن حسين . و الجميع يلعلعون و يشتمون و يصرخون في وجهه : " ولك انت حمار ؟ حيوان ؟ تخبلت؟ شنو اللي اجا براسك؟ " قدامك كول مفتوح ! وتروح تركض ورا برتقالة؟ "
مسكه معلم الرياضة من ذراعه ، يشد و يعصر فيها. " شنو هالبرتقالة؟ ما اكلتها مثل ربعك؟ ليش ضامها في جيبك؟"
-" اريد آخذها لأمي!"
-" لأمك يا حيوان؟"
- " اريد آكلها ويا امي. اريد اذوّقها طعم البرتقال!"

No comments: